فقه الواقع ودوره في مجال التشريع وسلامة العمل بالاحكام
رصـد لأهـم الآليات المنهجـية لفقـه العملـيات
من خلال بعض الاجتهادات الفقهية
ذ/ السكتاني عمر
لا يجادل احد في أن الاجتهاد الأصولي يأخذ بعدين : بعدا يتجه النظر فيه إلى النص من حيث ألفاظه و عباراته و معانيه ، و بعد يتجه النظر فيه إلى الواقع الخارجي وما يتبعه من لواحق و إضافات لتحديد محل الحكم و تحقيق مناطه الذي يرتبط به، و كذا معرفة الحكم الشرعي فيما يســــتجد من وقائــــع و تصرفات، و تطبيق الأحكام المجردة على الوقائع النازلة، فإذا كان اعتبار السياق الداخلي في المجالات التشريعية يساعد على تبيان مدى صحة الأحكام ، فان اعتبار السياق الخارجي يدعم اعتبار السياق الداخلي كما يعين على استبانة معالم الإعمال الأوفق للأحكام ...فقد تكون الأحكام صحيحة غير أن تطبيقها يقتضي تكييفات معينة لابد فيها من اعتبار السياق والملابسات المرتبطة بمختلف القضايا والأسئلة والمشكلات التي يفرزها الواقع الاجتماعي (1).
فالاجتهاد ليس هو فقط القدرة على الاستنباط من النصوص بل هو أيضا القدرة على فهم الواقع والفقه فيه ، يقول ابن القيم الجوزية:"...و لا يتمكن المفتي و لا الحاكم من
.........................................
1 – انظر في هذا السياق : التكييف الفقهي وأثره في تطبيق الحكم الشرعي ، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة بدار الحديث الحسنية ، السنة الجامعية : 2006-2007
الفتوى و الحكم إلا بنوعين من الفهم، احدهما فهم الواقع و استنباط علم حقيــــــقة ما وقع بالقــــرائن و الأمارات و العلامات حتى يحيط بها علما. و النوع الثاني فهم الواجب من الواقع و هـو فهم حكم الله في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ، ثم يطبق احدهما على الآخر....(1)"
و يقول في موضع آخر : " و الواجب شيء و الواقع شيء و الفقيه من يطبق بين الواقع و الواجب(2) "
كما ورد في التبصرة لابن فرحون أن القاضي لا يمكنه أن يفصل في نزاع ما إلا إذا فهم الوقائع على حقيقتها و له أن يستعين على هذا الفهم بكل الوسائل التي تمكنه من ذلك 3" . وتأسيسا على ذلك فان الفراغ الذي يعانيه الفقه اليوم فانه يعود في جانب منه إلى التمسك بالتقليد وتهميش ما يعرفه الواقع الاجتماعي من متغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية وإدارية لها علاقة مباشرة بمجال التشريع .
لهذا فإن دراسة الموضوع تقتضي منا ان نتطرق اولا الى دراسة أساسيات فقه الواقع وآلياته المنهجية (المبحث الأول ) و ثانيا الى دوره في مجال التشريع وسلامة الإعمال الأوفق للأحكام ( المبحث الثاني) .
المطلب الأول : أساسيات فقه الواقع والياته المنهجية
يعتبر فقه الواقع لبنة أساسية في بناء التصور الاجتهادي للوقائع المستجدة، بل انه اخطر لبنة و أهمها، فيما يتعلق بالاجتهاد التنزيلي تحقيقا للمناط و إصدارا للـــــــفتوى
و تطبيقا للأحكام الشرعية لذلك وضع له الأصوليون مجموعة من القواعد و القيود التي من شانها آن تعصم ذهن المجتهد من الوقوع في الخطأ ، و هذه القواعد التي ينبغي اعتبارها في
...........................................
1 – اعلام الموقعين ، ج 1 ص 222 .
2 – اعلام الموقعين ، ج 4 ص 222 .
3 – تبصرة الحكام لابن فرحون ، ص 88 وما بعدها .
عملية التنزيل هي تحقيق المناط ( الفقرة الأولى) و العمل بالمقاصد ( الفقرة الثانية) واعتبار المآل وكل ذلك في إطار الاعتماد على الخبرة في معالجة الحوادث المستجدة ومعرفة الجوانب النفسية و الاجتماعية و الاقتصادية المحيطة بها... ( الفقرة الثالثة ) .
الفقرة الأولى: تحقيق المناط
إن تحقيق المناط يعد أصلا كليا في تطبيق الأحكام و تكييف الوقائع المستجدة " لان المقصود من هذا الاجتهاد إنما هو العلم بالموضوع على ما هو عليه " (1) و النظر في الحادثة المستجدة أو الظاهرة الجديدة ، و فحص طبيعتها و سماتها و ملامحها، و معرفة شرعيتها، و تسليط الحكم الشرعي عليها بموجب تحقيق مسماها و طبيعتها.(2) " و معناه أن يثبت الحكم الشرعي بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله" (3) لتنزيل الحكم عليه ، و ذلك لان " الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية" على حدتها و إنما أتت بأمور كلية و عبارات مطلقة تتناول أعدادا لا تنحصر و مع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره" (4) أي أن " كل صورة من صور النازلة نازلة مستأنفة في نفسها لم يتقدم لها نظير وإن تقدم لها في نفس الأمر فلم يتقدم لنا، فلابد من النظر فيها بالاجتهاد " (5) و هو الذي يدعى بالتكييف الفقهي . أو بتعبير آخر للإمام الشاطبي : " إن اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة إلى محالها على وجهين احدهما : الاقتضاء الأصلي قبل طروء العوارض وهو الواقع على المحل مجردا من التوابع و الإضافات كالحكم باباحة الصيد و البيع و الإجارة و سن النكاح و ندب الصدقات غير الزكاة و ما أشبه ذلك ، و الثاني الاقتضاء التبعي و هو الواقع على المحل مع اعتـــــبار التوابع و الإضافات كالحكم بإباحة النكاح لمن لا ارب له في النساء ،
1 م .4/165
2 نور الدين بن مختار الخادمي . الاجتهاد المقاصدي ..ص 69
3 الموافقات ، 4/90
4 – الموافقات ، 4/92
5 – للتوسع انظر : حميد ديوان ، اثر الخبرة في تحقيق المناط ، رسالة لنيل د د ع م بدار الحديث الحسنية .
ووجوبه على من خشي العنت، و كراهية الصيد لمن قصد فيه اللهو ، و كراهية الصلاة لمن حضره الطعام أو لمن يدافع الاخبثان ، و بالجملة كل ما اختلف حكمه الأصلي لاقتران أمر خارجي"(1) و من هنا تبرز أهمية تحقيق المناط في فهم النازلة ، و تصور النازلة و فهمها فهما صحيحا قد يتطلب:
*استقراء نظريا و عمليا
*و قد يفتقر إلى إجراء استبانة أو جولة ميدانية أو مقابلات شخصية و ربما احتاج الأمر إلى معايشة و معاشرة
*و ربما كان سؤال أهل الشأن و الاختصاص كافيا لمراجعة أهل الطب في النوازل الطبية و أصحاب التجارة و الأموال في المعاملات المالية و هكذا .
و نخلص في نهاية المطاف إلى أن تصور أي نازلة من النوازل لابد له من خطوات:
1) الاستقصاء و التحري عن الدراسات السابقة حول النازلة سواء كانت هذه الدراسات شرعية ام غير شرعية
2) النظر في جذور النازلة و تاريخ نشأتها" الناحية التاريخية"
3) الإطلاع على ظروف النازلة و بيئتها و أحوالها المحيطة بها " الناحية الجغرافية "
4) الرجوع إلى أهل الشأن و الاختصاص و سؤالهم عما تعلق بهذه النازلة (2).
وإذا كان تحقيق المناط نوعا من الاجتهاد كما قال الغزالي و غيره، (3) الا ان الشاطبي جعله القسم الأكبر و الأهم و الأدوم في الاجتهاد ، حين قال : " الاجتهاد على ضربين احدهما : لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع اصل التكليف و ذلك عند قيام الساعة والثاني : يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا ، فأما الأول فهو المتعلق بتحقيق المناط" (4) فتحقيق المناط يعد اصلا كليا في تطبيق و تكييف الوقائع المستجدة و هو لا خلاف فيه بين العلماء .(5)
1 م 4/91-92
2 انظر الاجتهاد في النوازل لمحمد بت حسين بن حسن الجيزاني. مجلة: العدل . العدد 19/ رجب 1424 ص 25-24
3 المستصفى 2/230
4 الموافقات 4/75
5 المستصفى 2/230
فلو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الدهن لأنها مطلقات و عمومات ، و ما إلى ذلك منزلات على أفعال مطلقات كذلك والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة و إنما تقع معينة مشخصة فلا يكون الحكم واقعا عليها إلا بعد المعرفة بان هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام (1).
و إذا كان تحقيق المناط يعتبر شرطا لازما لتطبيق الأحكام و تكييف الوقائع ، فانه لابد له ان يمر بمرتبتين أساسيتين و هما:
المرتبة الأولى : تحقيق المناط العام
و هده المرتبة هي الأصل في التحقيق، لان المجتهد يجب عليه في البداية حصر أنواع المناطات التي تندرج في الحكم الشرعي التجريدي ، دون اعتبار لأية خصوصية ، وتحقيق المناط بهذا المعنى إنما هو ضرب من التطبيق العام لأحكام الشريعة (2) فهو تحقيق في الواقع نعم و لكن بحيث يصلح لأكثر من فرد ، و أكثر من محل ما دامت تلك الأفراد صالحة للانضواء تحت عموم الحكم و كليته(3)
المرتبة الثانية :تحقيق المناط الخاص
و قد لاقت هده المرتبة اهتماما كبيرا من الشاطبي و عدها أرقى أنواع الاجتــــهاد
و أصعبها، فهي نظر في الحكم بعد تحقيق مناطه العام، أي بعد تصور محاله التنزيلية حسب ما تقتضيه الشروط العلمية و المقاييس التنزيلية الاجتهادية المشتركة بين سائر المكلفين و محال التحقيق (4) و مثال ذلك ان يستدل احد المتناظرين على منع بيوع الآجال بسد الذرائع ، ثم تعرض عليه نازلة بيع معين من أفراد ذلك النوع، فينظر فيه أولا هل هو مندرج ضمنه حقيقة أم لا؟ و هذا هو تحقيق المناط العام ثم بعد ذلك ينظر في الظروف و الملابسات المحيطة بالنازلة ليحكم عليها إما بالجواز أو المنع و ذلك هو تحقيق المــــناط الخـــــاص.
1 - م. 4/59
2 - د فريد الانصاري. المصطلح الاصولي عند الشاطبي. ص367
3 - نفس المرجع السابق4 - نفس المرجع السابق ص 373
الفقرة الثانية: اعتبار المقاصد
يتوجب عند قطع الأحكام و تنزيلها على مختلف الوقائع النظر إلى المقاصد الشرعية و "مقاصد التشريع العامة هي المعاني و الحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع و معظمها..." (1) فالمراد إذن بمقاصد الشريعة " الغاية منها ، و الأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها" (2) كما تستعمل المقاصد أحيانا بمعنى النـــيات (3)، و منه القاعدة الفقهية: " الامور بماقصدها"
و قال العلامة ابن القيم – رحمه الله – : الشريعة عدل كلها، و رحمة كلــــــــــها.
و مصالح كلها، فكل مسالة خرجت عن العدل إلى الجور، و عن الرحمة إلى ضدها و عن المصلحة إلى المفسدة و عن الحكمة إلى العين فليست من الشريعة، و إن أدخلت فيها بالتأويل فالشريعة عدل الله بين عباده و رحمته بين خلقه"(4)
إلا ان اعتماد المقاصد في عملية الاجتهاد يجب أن لا يقتصر على عملية التفسير و استنباط الأحكام من النصوص و لكن يجب أن يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك و أهم و هو مرحلة تطبيق الأحكام و تكييفها و تنزيلها على الوقائع النازلة حتى لا يتناقض مع تلك المقاصد، " و هو ما يقتضي تكييفها معينا لتنزيل النصوص، و تكييفا للحالات التي تنطبق عليها النصوص و التي لا تنطبق و الحالات التي يتعين استئنافها بصفة دائمة أو بصفة عارضة..."(5) ويظهر اثر المقصد في تكييف الحكم الشرعي في حديث النهي عن تلقي الركبان (أي أصحاب السلع) قبل دخولهم الأسواق، فعلى القول بان مقصود النهي حماية أهل الأسواق حتى لا يتفرد المتلقي بالرخص دونهم، تترتب أحكام و تطبيقات معينة و على القول بان مقصوده حماية البائع الذي لا يعرف ثمن السوق.. تترتب أحكام و تطبيقات اخرى(6) قال أبو الوليد "فرأى مالك أن المقصود بذلك أهل الأسواق لئلا ينفرد المتلقي برخص السلعة دون أهل الأسواق، ورأي انه لا يجوز أن يشتري احد سلعة حتى تدخل السوق.....
1 الظاهر ابن عاشور مقاصد الشريعة الاسلامية ص 50
2 علال الفاسي: مقاصد الشريعة الاسلامية و مكارمها ص 3
3 انظر حول دور النية في التكييف العقود: الاباه و النظائر لابن نجيم: ص 110 -111
4 اعلام الموقعين
5 د احمد الريسوني : التص و الواقع و المصلحة مجلة اسلامية المعرفة، السنة الرابعة، العدد 13. ص 63
6 " من اعلام الفكر المقاصدي" لمؤلفه د. احمد اليسوني ص 5
و أما الشافعي فقال إن المقصود بالنهي إنما هو لأجل البائع يغبنه المتلقي. لان البائع يجهل سعر البلد" (1) و من مسائل الزكاة مسالة المال المشترك بين مالكين متعددين، كالتجارة المشتركة، هل يتحدد النصاب بمجموع المال المشترك، أو بحسب نصيب كل واحد من الشريكين أو الشركاء؟ قال ابن رشد : " عند مالك و أبي حنيفة أن الشريكين ليس يجب على احدهما زكاة حتى يكون لكل واحد منها نصاب و عند الشافعي أن المال المشترك حكمه حكم مال رجل واحد. (2) قال و بسبب اختلافهم الاجماع الذي في قوله عليه الصلاة و السلام " ليس فيما دون خمس أوراق من الورق صدقة " فان هذا القدر يمكن أن يفهم منه انما يخصه هذا الحكم، كان لمالك واحد أو أكثر من مالك واحد " 3 فالنص إذن من حيث ألفاظه ودلالته اللغوية يحتمل الوجهين معا ، بل هو في العموم اظهر لكن ابن رشد يرجع إلى النظر في اصل النصاب و مقصوده أي لماذا شرط النصاب في أموال الزكاة أصلا؟ و لذلك قال : " إلا انه لما كان مفهوم اشتراط النصاب إنما هو الرفق، فواجب أن يكون النصاب من شرطه أن يكون لمالك واحد، و هو الأظهر"(4)
فمن خلال هذه الأمثلة و غيرها تتجلى أهمية اعتبار المقاصد عند تكييف الوقائع و إلحاق الحكم الشرعي بها حتى لا يتناقض مع تلك المقاصد إن المشكلة الأدق في هذا الضابط هي ادارج النوازل و الأقضية في كلياتها و مراتبها و الحكم على أن هذا الأمر هو من قبيل حفظ الذين أو النفس أو العقل أو النسل أو المال، و انه ضروري أو حاجي أو تحسيني أو مكمل لإحدى تلك المراتب (5) " فلا يصح إهمال النظر في هذه الأطراف فان فيه جملة الفقه ، و من عدم الالتفات إليها أخطا من أخطا. و حقيقته: نظر مطلق في مقاصد الشارع و إن تتبع نصوصه مطلقة و مقيدة أمر واجب فبذلك يصح تنزيل المسائل على مقتضى قواعد الشريعة و يحصل منها صور صحيحة في الاعتبار" " و كما أن من اخذ بالجزئي معرضا عن كلية فقد أخطا فكذلك من أخذ بالكلي معرضا عن جزئيه". " فلابد من اعتبارهما معا في كل مسالة"
1 نقلا عن: د . احمد الريسوني في مؤلفه: "من اعلام الفكر المقاصدي" ص 52
2 ابن رشد، بداية المجتهد ج 1 ص 436
3 نفس المصدر . ج 1 ص 437
4 نقلا عن د. احمد اليسوني في مؤلفهر: من اعلام الفكر المقاصدي ص 50
5 نور الدين الخادمي. الاجتهاد المقاصدي حجيته.. الجزء الثاني ص50
فهذا هو الاجتهاد الحق و هذا هو الاجتهاد الأكمل فكل مسالة تعرض، يجب عرضها على الأدلة الجزئية، و على الأدلة الكلية و المقاصد العامة للشريعة ، و الذي يقتصر في اجتهاده و فتواه على ما فهمه من دليل جزئي... لا يقل اجتهاده قصورا و اختلالا عمن الم بشيء من مقاصد الشريعة في حفظها للمصالح الضرورية و الحاجية و التحسينية و درئها للمفاسد، ثم أخد يفتي و يحكم دون مراجعة و نظر في الأدلة الخاصة لكل مسالة و كل نازلة. فكلاهما قاصر و مقتصر عن درجة الاجتهاد الأمثل(1)
و عليه فلا بد لمن يكيف الوقائع النازلة أن يبحث عن المسالك و الطرق التي تكشف عن تحقق حصول المقاصد الشرعية في الوقائع النازلة. و المنهجية العامة التي تقوم عليها تلك المسالك هي دراسة الواقع و تحليله وفقا لملابساته و حيثياته و هذا يتطلب استنفار كل الطاقات في التخصصات المختلفة من اقتصادية و اجتماعية و سياسية و تربوية و غير ذلك. (2)
و لا يقتصر الأمر على مجرد حصول تلك المقاصد في الوقائع النازلة إنما لابد من حصول الموافقة بين تلك المقاصد و قصد المكلف . قال الشاطبي " قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل، موافقا لقصده في التشريع..." (3) و من هنا يمكن القول بوجه عام أن النية في الفقه الإسلامي تقوم بدور هام في تكييف الأعمال و الوقائع، فقد يذكر المتعاقدان عقدا و تكون نيتهما قد انصرفت إلى عقد آخر، فالعبرة بما انصرفت إليه النية فالكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة و الحوالة بشرط عدم براءة المحيل كفالة و لو شرط رب المال للمضارب كل الربح كان المال قرضا (4).. و زواج المحلل باطل و تصرف المريض مرض الموت يعطى حكم الوصية و بيع العينة ربا (5).
الفقرة الثالثة: اعتبار المآل
يعتبر المآل لبنة أساسية في بناء التصور الاجتهادي للنازلة في ضوء ظروفها وملابساتها التي تتطور و تتغير بتغيير الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية
1 د. احمد الريسوني- نظرية المقاصد عند الامام الشاطبي ص 343
2 في الاجتهاد التنزيلي لبشير جحيش ص 92-93 .م 2/331
3 م. 2/331
4 اباشباه و النظائر لابن نجيم ص 110-111
5 المغني 4/174 و 175
المحيطة بها بل انه اخطر لبنة و أهمها فيما يتعلق بالاجتهاد التنزيلي تحقيقا للمناط و إصدارا للفتوى و تطبيقا للأحكام الشرعية، فالمآل شرط أساسي لا ينبغي أن يتخلف عن الاعتبار في كل ذلك إذ المآلات هي الكفيلة بتحقيق قصد الشارع على الحقيقة و لذلك جزم الإمام الشاطبي بقوله الجامع " فاعتبارها لازم في كل حكم على الإطلاق" (1)
إن دراسة الوقع الاجتماعي و البحث عن الحكم الشرعي المناسب له في ظروفه وسياقاته لا يقتصر على التحقيق في مناط الحكم و التحقيق في حصول مقاصد الشريعة ، وإنما يتعدى ذلك إلى ضرورة التحقيق في مآلات الأفعال.فقد يفضي التحقيق في مناط الحكم إلى أن واقعة ما تندرج ضمن الحكم المعين في نوعه و عينه. و قد يقضي التحقيق في حصول المقاصد الشرعية إلى أن تلك الواقعة يحصل فيها مقصد الحكم عند إجرائه عليه، ولكن ذلك كله لا يكفي في سلامة العمل بالأحكام ، بل لابد من التثبت أن التنزيل لا يقضي إلى مفسدة اكبر من المصلحة التي تحققت به في ذاته و هو الذي سماه الشاطبي " النظر في مآلات الأفعال"
فالمآل اصل كلي يقتضي اعتباره تنزيل الحكم على الفعل ، بما يناسب عاقبته المتوقفة استقبالا... أي إن المجتهد يكيف الفتوى بمقتضاه على وفق ما قد يصير إليه- غالبا- حال الفعل بعد وقوعه فهو ضرب من الاستبصار الرامي إلى تصور مستقبل الفعل الذي يغلب على الظن انه سيصير إليه بناء على اعتبار حال الزمان و أهله،(2) فوظيفة المآل هي تكييف الحكم مع الواقع أو تنزيله على وفاقه، و لكن باعتبار ما سيؤول إليه حاله اســـتقبالا (3)
و هذا ما يستلزم ضرورة " تطبيق النصوص برعاية الظروف القائمة في أثناء التطبيق..من مآل متوقع اذ يكيف الفعل و لو كان في أصله مشروعا- بالمشروعية و عدتها في ضوء ذلك المآل..." (4)لكن اذا كان اعتبار المال يعتبر شرطا لازما في بناء النازلة و تكييفها و في تقرير الحكم و تنفيذه (5 ) كما ذهب الى ذلك العديد من الاصولين و الفقهاء (6)
1 م. 4/211
2 المصطلح الاصولي لفريد الانصاري : ص 416
3 نقس المصدر ص. 421
4 د. محمد فتحي الدريني . اشكاليات الفكر الاسلامي ص 115
5 د احمد الريسوني في مؤلفه: من اعلام الفكر المقاصدي ص 53
6 نذكر منهم : الامام ابو بكر السرخي ( انظر اصول السرخي 1/91) و القرافي ( الفروق ج 2/24 الى 65.و ج 4/163.164) و ابن جزيء الغرناطي ( القوانين الفقهية : 109) و ابن القيم: ( اعلام المقعين : 1/198) ابن رشد ( بداية المجتهد / ص 204.29
فان التساؤل الذي يطرح نفسه بإلحاح هو ما هي المنهجية العلمية التي يمكن من خلالها الانتقال بهذا المفهوم من دائرة التنظير إلى دائرة التحقيق و الممارسة؟ أو بعبارة أخرى هل ثمة آليات عملية لتشغيله و تفعيله على ارض الواقع؟
منهجية التحقيق في مآلات الأفعال:
إن اعتبار مآلات الأفعال في المجالات التشريعية وصلته بمجال العمل بالأحكام لم يكن مجرد عمل نسبي للمجتهد يعتمد على دوقه و قدرته الاجتهادية و معرفته بالواقع وإنما يقوم على أصول و قواعد حددها الأصوليون و هي:
القاعدة الأولى: سد الذرائع
و قاعدة سد الذرائع تقوم على منع المأذون فيه لئلا يتوسل به إلى ممنوع، و قد حمل لواءها المذهب المالكي و حكمها أكثر في أبواب الفقه و اعتبرها بن القيم ربع الدين (1)كما اعتمدها قبله ابن تيمية (2) في فتاويه...و من الأمثلة على ذلك في باب البيع أن يبيع أحد سلعة بعشرة مؤجلة، ثم يشتريها بخمسة معجلة قال القاضي أبو بكر ابن العربي: " فان قيل : وأنت إنما حرمت هذا خوفا من القصد، و أنت لم تعلم قصده قلنا هذه نكتة المسألة و سرها الأعظم و ذلك انه لما كان هذا امرأ مخوفا حسم الباب فيه و منع من صورته لتعذب الوقوف على القصد فيه..." (3) و في باب النكاح منع المالكية نكاح المريض مرض الموت، و منعوا التوارث به إذا وقع 4 كما أفتى عدد فقهاء المذهب فمن هرب بامرأة و أقام معها على الزنا، ثم طلب الزواج بها أنها تحرم عليه تحريما مؤبدا ، قال الشيخ العلمي: " و ما ذلك منهم إلا مراعاة للقاعدة الجارية في سد الذرائع، و حسم مادة الفساد...."(5)
فقاعدة سد الذرائع تحيل على معنى الإعمال التنزيلي للمفهوم.. إنها نوع من التكييف العملي لما هو نظري ...(6) فإذا تبين ان واقعة معينة تؤول عند تطبيق الحكم عليها إلى مال فاسد تذرعا بها إليه، فانه لا بد من صرف ذلك الحكم الملحق بتلك الواقعة بقاعدة سد الذرائع.
1 اعلام الموقعين : 3/159
2 مجموع الفتاوي : 20/349
3 عارضة الاحوذي
4 الموطا 2/573
5 نوازل العلمي 2/92
6 المصطلح الاصولي ص 44
القاعدة الثانية: منع الحيل
من بين القواعد التي يبنى عليها تحقيق المآل قاعدة منع الحيل و هي قاعدة تقوم على منع" تقديم عمل ظاهر الجواز لابطال حكم شرعي و تحويله في الظاهر إلى حكم آخر " 1 وعليه فإذا تبين بان الحيلة تؤول إلى مال فاسد فإنها تمنع و يصرف حكم الإباحة في الأعمال المتحيل بها ليجرى عليها حكم المنع تفاديا لمفسدة المآل
القاعدة الثالثة: مراعاة الخلاف.
مراعاة الخلاف هي قاعدة تقوم على إعمال الدليل المرجوح استثمارا للخلاف في معالجة ماتؤول إليه الواقعة من مفاسد بعد وقوعها فالمجتهد يفترض فيه انه سأل عن واقعة لم تقع بعد فيفتي فيها بالمنع ، فإذا سئل عنها هي نفسها و لكنها كانت قد وقعت فانه يفتي فيها بالجواز (2)
و من الأمثلة على ذلك أن النكاح المختلف فيه (3) " قد يراعى فيه الخلاف فلا تقع الفرقة إذا عثر عليه بعد الدخول مراعاة لما يقترن بالدخول من الأمور التي ترجح جانب التصحيح. و هذا كله نظر إلى ما يؤول إليه ترتب الحكم بالنقض و الإبطال من إفضائه إلى مفسدة توازي مفسدة النهي أو تزيد" (4) و هذا تصحيح للمنهي عنه من وجه و لذلك يقع فيه الميراث و يثبت النسب للولد5 ، و هذا يعني أن المجتهد عند تكييف الواقعة و إلحاق الحكم المختلف فيه بها يجب عليه أن ينظر إلى المآل الذي يؤول إليه تطبيق الحكم الراجح بعد وقوعه و ما يترتب عليه من مفاسد، فيصرف عنها ذلك الحكم و يطبق عليها الحكم المرجوح استثمارا للخلاف الفقهي في معالجة المفاسد.
1 م. 4/201
2 المصطلح الاصولي الانصاري ص 503
3 و من ذلك الزواج الذي تبرمه المراة الرشيدة ذات الاب بدون حضور وليها : و هو زواج فاسد في الفقه المالكي بينما هو زواج صحيح عند الاحناف، لكن مراعاة للخلاف، فان المالكية يرتبون عليه بعض الاثار اذا وقع، و منها التوارث بين الزوجين و ثبةت التسب الى الرجل سواء اكان حسن النية اوم سيء النية
4 م 4/204-205
5 ابن جزي ، القوانين الفقهية، دار الفكر ص 155
المطلب الثاني : دور فقه الواقع في مجال التشريع وسلامة العمل بالأحكام من خلال بعض الاجتهادات الفقهية :
الفقرة الأولى : دور فقه الواقع في مجال التشريع :
إن خلود الشريعة و استمرارها إلى يوم القيامة، لا يتم دون الإجتهاد في تنزيل أحكام الله على الوقائع، و ذلك بالجمع بين المعرفة للأحكام الكلية المعتمدة على منهج الفــــهم
و المعرفة لكيفية تطبيق هذه الأحكام على الوقائع المعتمدة على منهج التطبيق . و من هنا تبرز أهمية التكييف الفقهي في تطبيق الحكم ، يقول الدكتور فتحي الدريني: " و ليس الإجتهاد في التفهم و الاستنباط بأولى من الاجتهاد في التطبيق ، إن لم نقل أن قيمة الاجتهاد علميا إنما تنحصر فيما يؤتي من ثمرات في تطبيقه تحقق مقاصد التشريع و أهدافه في جميع مناحي الحياة و إذا كان الأمر كذلك فان الخبرة في شؤون الحياة كلها، و ما يقوم به الناس من أوجه النشاط المختلفة في تدبير معايشهم و طرق كسبهم و انتفاعهم أصبحت عنصرا أساسيا في الاجتهاد بالرأي لأنها بذاتها هي متعلق الأحكام، و إذا كان من المقرر بداهة أن طبيعة الاجتهاد عقل متفهم ذو ملكة مقتدرة متخصصة ، و نص تشريعي مقدس يتضمن حكما ومعنى يستوجبه، أو مقصدا يستشرف إليه، و تطبيق على موضوع النص أو متعلق الحكم، و نتيجة متوخاة من هذا التطبيق فان كل أولئك يكون نظريا ما لم تكن الواقعة أو الحالة المعروضة قد درست درسا وافيا بتحليل دقيق لعناصرها و ظروفها و ملابساتها، إذ التفهم للنص التشريعي يبقى في حيز النظر، و لا تتم سلامة تطبيقه إلا إذا كان ثمة تفهم واع للوقائع بمكونتها و ظروفها و تبصر بما عسى أن يسفر عنه التطبيق من نتائج لأنها الثمرات العملية المتوخاة من الاجتهاد التشريعي كله"(1) ففقه الواقع له اثر مهم في تقرير الحكم و تنزيله و تطبيقه على النازلة أو المحل لأنـه " يقتضي المعرفة الجيدة بالواقع و مكوناته بالأشياء و أوصافها و بالأفعـــــــال و أســــبابها و آثارها... اذ من دون هذا يمكن أن يقع تنزيل الأحكام على غير ما وضعت له أو على أكثر ما وضعت له أو على اقل مما وضعت له، و يمكن أن يقع تعطيل الحكم مع وجود محله ومناطه.."(2)
(1) المناهج الاصولية في الاجتهاد بالراي....ص:5
(2) د. احمد الريسوني الاجتهاد بين النص و المصلحة و الواقع ص 64
فالغاية من فقه الواقع إذن هي بدل الوسع في تطبيق المعنى المراد ( الحكم ) الذي وقف عليه المجتهد من الأدلة الشرعية، و تنزيله إلى جزئيات الواقع بما يعرفه هذا الأخير من متغيرات ووقائع غير متناهية تفرض نفسها على النص باعتباره أساس تطور الحضارة الاسلامية . فالاجتهاد لا يقف عند معرفة مراد النص الشرعي و إدراك علته فقط، و إنما يتعدى ذلك الى مرحلة أهم و هي تحقيق ذلك المراد في الواقع، و ذلك لان لأدلة الأحكام اقتضاءين مختلفين، اقتضاء تجريديا مفصولا عن اقتضاءات الواقع، و اقتضاء مركبا من اقتضاء الخطاب الشرعي و اقتضاءات الواقع المراد تنزيل النص فيه. يقول الشاطبي: " كل دليل شرعي مبني على مقدمتين احداهما راجعة الى تحقيق مناط الحكم ، و الاخرى ترجع الى نفس الحكم الشرعي" (1) و يقول في موضع آخر: " اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة إلى محالها على وجهين: احدهما: الإقتضاء الأصلي قبل طروء العوارض، و هو الواقع على المحل مجردا من التوابع و الإضافات، كالحكم بإباحة الصيد و البيع و الإجارة، و سن النكاح و ندب الصدقات غير الزكاة... و الثاني الاقتضاء التبعي، و هو الواقع على المحل مع اعتبار التوابع و الإضافات، كالحكم بإباحة النكاح لمن لا ارب له في النساء، ووجوبه على من خشي العنت و كراهية الصيد لمن قصد فيه اللهــــــــو، و كراهية الصلاة لمن حضره الطعام، أو لمن يدافع الاخبثان، و بالجملة كل ما اختلف حكمه الأصلي لاقتران أمر خارجي" (2) فالاجتهاد الذي نحتاج إليه اليوم هو الاجتهاد التحقيقي الذي يعتمد أساسا على الخبرة بالواقع و بظروفه و ملابساته و أحواله، قال العلامة ابن سعدي: " فالطريق إلى الحكم العلم التام بالواقع ليتمكن من الحكم عليه و عند الاشتباه في الجزئيات يرجع فيه إلى أهل الخبرة فيه" (3) إن الواقع مثلا يختلف حكمه عندما يكون عارضا، و عندما يكون عادة، بل إن الواقع عندما يصير عادة قد يستمر و قد يتبدل فتتبدل الأحكام التابعة لــــه، و على هذا
(1) م. 3/39
(2) م. 3/71
(3) مجموع الفوائد و اقتناص الاوابد ص 110
القانون كان الفقهاء يسيرون في صياغة فتاواهم كما قرر ذلك العلامة القرافي حيث قال: " وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام، فمهما تجدد العرف اعتبره، و مهما سقط أسقطه، و لا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك و اسأله عن عرف بلده و أجره عـــــــليه،و افته به دون عرف بلدك، و المقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح. و الجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين، و جهل في مقاصد علماء المسلمين و السلف الماضـــــين"(1)
ان اثر فقه الواقع يتجلى بالأساس في تعديل الحكم المقرر للواقعة مجردة عن التوابع إلى حكم آخر يكون مناسبا لها و مطابقا لمقصود الشارع دون أن يعني ذلك إلغاء الحكم أو إسقاطه، لان النصوص الشرعية مهما كانت قطعية في دلالتها على مسمياتها و أحكامها الشرعية فان تواردها على القضايا الجزئية قد يخفف من وطأة قطعيتا فيها، إذا كانت الواقعة مقترنة بتوابع و إضافات و قيود تستقر في مناط الحكم، والمثال على ذلك ما ذكره الشاطبي بقوله: " إن كل مباح في إطلاق إنما هو مباح بالجزء خاصة، و أما بالكل فهو مطلوب الفعل أو مطلوب الترك، فان قيل: أفلا يكون هذا التقرير نقضا لما تقدم من أن المباح هو المتساوي الطرفين؟ فالجواب أن لا ، لان ذلك الذي تقدم هو من حيث النظر إليه في نفسه، من غير اعتبار أمر خارجي و هذا النظر من حيث اعتباره بالأمور الخارجة عنه، فإذا نظرنا إليه في نفسه فهو الذي سمي هنا بالمباح بالجزء، و إذا نظرت إليه بحسب الأمور الخارجة فهو المسمى المطلوب الفعل بالكل"(2) فهذا النص يشير إلى أن الأمور الخارجة لها دخل في تكييف حكم الإباحة، فالشيء قد يكون حقا و مباحا إذا تساوى طرفاه، أما إذا غلب احد جانبيه يتحول إلى حرام أو واجب، أو كراهية أو ندب، و من هذا القبيل اجتهاد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في منع بعض الصحابة من نكاح الكتابيات، مع ورود نص مبيح ، دفعا لذرائع الفتنة و الفــــــــــساد،
و القاعدة تقول: ( تصرف الامام على الرعية منوط بالمصلحة) (3) كذلك لابد من مراعاة الواقع عند تنزيل الاحكام عليه، و ذلك بمراعاة ما تؤول اليه عملية التطبيق، قال العلامة الشاطبي: " النظر في مآلات الافعال معتبر مقصود شرعا..." (4) ان اصل المآل بنيت عليه
1- الفروق 1/176 .
2- الموافقات 1/124
3- احمد الزرقاء ، المدخل الفقهي العام ج 2
4- الموافقات 5/177-178
اصول اخرى كسد الذرائع و الاستحسان و نحوهما، و مراعاة معنى تحقيق المآل تكون بدراسة الوقائع في احوال فاعليها مثلا، و ذلك بالنظر إلى استطاعتهم أو عجزهم، أو حصول المشقة و العنت لهم، إلى غير ذلك من الأحوال التي تقتضي رفع الحكم لعدم شرطه، أو تخفيفه تحقيقا للتيسير لوجود موجبه مما يبحث ضمن مباحث الاهلية،(1) قال الاستاذ مصطفى احمد الزرقاء في بيان مبنى الأهلية: " رأينا في بحث شرائط الانعقاد العامة من نظرية العقود أن من تلك الشرائط أهلية العاقد للعقد ( ف/165). و رأينا في بحث البطلان من نظرية المؤيدات أن من جملة أسباب بطلان العقد كون العاقد عديم الأهلية اللازمة للانعقاد كالمجنون و الصغير غير المميز (ف/347)
و جميع الأفعال و التصرفات التي تجري فيها صحة و بطلانا كالادعاء بالحق أمام القضاء و كالإقرار بحق، و كالشهادة على الحق ، كل ذلك لابد فيه من أن يكون الشخص أهلا لممارسة هذه الأفعال و التصرفات و إلا كانت باطلة غير معتبرة، لان من شرائط صحتها الأهلية و كذلك العبادات الدينية من صلاة و صيام و غيرهما، فإنها تعتمد في الشخص نوعين من الأهلية:
(1) التأصيل الشرعي لمفهوم "فقه الواقع" ص: 235
- أهلية لتصح منه هذه العبادات و لو كان غير مكلف بها ، فان العبادات قد تنعقد و تصح من الصغير غير المكلف.
- و أهلية لتجب عليه هذه العبادات، فيصبح مكلفا بها مسؤولا عن تركها.
و كذلك عقوبات الجنايات، فإنها يشترط لاستحقاقها شرعا و قانونا أن يكون الجاني أهلا لتوجيه هذه التبعة الجزائية عليه تأديبا له و جزرا لغيره. فان لم يكن الجاني ذا أهلية للمسؤولية الجزائية، كالمجنون و الصغير، فانه لا يستحق العقوبة.
و هكذا نجد الأهلية مطلوبة في كل خطوة يخطوها الإنسان في أفعاله و تصرفاته التي تعتمد نتائجها صفات مخصوصة في الفاعل المتصرف.
من هذه الملاحظات يتجلى لنا مبنى الأهلية ، فنرى من خلالها:
أ) أن الأهلية تقوم على أساس من ضرورة اتصاف الشخص بالصفات التي يقدر الشارع لزوم وجودها فيه ليمكن ثبوت الأحكام الشرعية في حقه، و لتصح نه التصــــــرفات
و تترتب نتائجها.
ب) و إن هذه الصفات المطلوبة تكون في كل موضوع بحسب ما يناسبه.
و قد يشترط لبعض الأفعال أو التصرفات أهلية بحدود تختلف عما يشترط في أفعال أو تصرفات أخرى ، فالأهلية التي تشترط في الشخص لصحة قبوله ما يوهب له من غيره تختلف عن الأهلية التي تشترط لكي تصح منه هبته و سائر تبرعاته"(1) و هذا يعني أن مراعاة أحوال المكلف في علاقته بالواقع من حيث أهليته، و من حيث ما يعرض لهذه الأهلية من العوارض السماوية المكتسبة، اصل شرعي يبنى عليه النظر في الواقع منعا للحكم عليها،
(1) المدخل الفقهي العام 2/734-736
أو تكييف له بما يتناسب مع نوع الأرض و طبيعة تأثيره، قال العلامة علاء الدين البخاري
(ت 730): " و سميت هذه الأمور التي لها تأثير في تغير الأحكام عوارض لمنعها الأحكام التي تتعلق بأهلية الوجوب أو أهلية الأداء عن الثبوت" (1)
فمن خلال النصوص السابقة تبين لنا مدى العناية التي كان يوليها فقهاؤنا لعملية تطبيق الأحكام المجردة على الوقائع المحققة، و الإحاطة بالشروط و العوامل المــــــــؤثرة فيـــــها،
و مراعاة الزمان و المكان و أحوال المكلف، فكل هذه الاعتبارات تعتبر عاملا اساسيا في توجيه الحكم و تطبيقه(2)، و من هنا نتذكر تلك القاعدة التشريعية الجليل التي صاغها ابن القيم رحمه الله يقول: " فصل في تغير الفتوى و اختلافها بحسب تغــــــــــير الأزمنة و الأمكنة
و الأحوال النيات و العوائد"(3) فإذا ثبت أن تلك الاعتبارات التي تغيرت ، كانت هي مناط الحكم و عليها و لأجلها وضع الحكم، فلا بد للفقيه أن يعيد النظر في ذلك الحكم، موازنا بين ما تغير و ما جد لتقرير الحكم الملائم للوضع الجديد و للحالة الجديدة، ذلك أن الحكم الذي وضعه الشرع أو اجتهد فيه المجتهدون لم يوضع للحالة الجديدة التي بين أيدينا"(4) و هذا يعني أن رأي المجتهد قد يتغير بتغير الظروف و الأحوال، التي تؤثر في اجتهاد المجتهد إيجابا أو سلبا، فتجعله هو نفسه يغير رأيه و فتواه فيما حكم به من قبل فيعدل رأيه أو يقيده أو يلغيه، وفق ما يؤدي إليه اجتهاده الجديد و من ذلك مثلا أن عمر رضي الله عنه كان يقضي في القضية في عام بحكم معين، ثم يقضي فيها نفسها في عام آخر بحكم أخر فإذا سئل عن ذلك قال : هذا على ما علمنا، و ذلك على ما علمنا. أي انه قضى بما أدى إليه اجتهاده في الحالين... لتغير الظروف في زمنه عن زمن من قبله، أو لاعتبار رآه و لحظه، لم يلحظه من قبل. (5)
(1) كشف الأسرار 4/37
(2) انظر مجلة الواضحة العدد الأول ص 96 إلى 112
(3) إعلام الموقعين 3/3
(4) الاجتهاد بين النص و المصلحة و الواقع ص 96
(5)د. يوسف القرضاوي. السياسة الشرعية ص 117
الفقرة الثانية : دراسة أثر فقه الواقع في تطبيق الاحكام
مـن خلال بعض الاجتهـادات الفقهيـــة :
تقدم الحديث عن انفصال الشرع عن تاطير الواقع وان كثيرا من المجالات بقيت بعيدة عن توجيهاته لاسباب مركبة بعضها ذاتي وبعضها موضوعي يعود الى غياب فقه الواقع والتمسك بالتقليد وهو الامر الذي نتج عنه انفصال مؤسسة الاجتهاد عن واقع التنظيم الاجتماعي بيد انه برجوعنا الى فقهائنا الاوائل نجد ان هناك اهتماما واضحا بهذا الفقه الذي يمثل الشطر الثاني لمنظومة الأحكام وهو ما يتجلى من خلال بعض التطبيقات التالية :
أولا: قضية نهيه صلى الله عليه و سلم عن ادخار لحوم الأضاحي:
فقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم في بعض السنوات عن ادخار لحوم الاضاحي في عيد الاضحى بعد ثلاثة ايام، و ذلك لظرف طارئ على المدينة و هو مجيء وفود من الاعراب من خارج المدينة اليها في هذه المناسبة و لم يكن في ذلك العصر مطاعم عامة، و لا فنادق و نحوها، مما يوجب على الناس ان يسعى بعضهم بعضا، و لا يعيش كل فرد لنفسه غافلا عن حاجة اخوانه. فلما انقضت تلك الظروف الطارئة، رفع هذا الحظر الجزئي، و عاد الامرالى ما كان عليه من اباحة الادخار، روى الشيخان عن سلمة بن الاكوع قال: قال النبي صلى الله عليه و سلم : " من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثلاثة و يبقى في بيته منه شيء ، فلما كان العام المقبل قالوا يا رسول الله ، نفعل كما فعلنا في العام الماضي؟ قال: كلوا و اطعموا و ادخروا، فان ذلك العام كان الناس جهد – أي مشقة و مجاعة – فاردت ان تعينوا فيها" فلا شك ان خبرته صلى الله عليه و سلم بالواقع هي التي كانت وراء تغيير الحكم من الاباحة الى النهي و المنع و ذلك لمواجهة ظرف طارئ حل بالمسلمين.
ثانيا: قضـــــية التسعـــــــير
- روى ابو داود (1) و غيره من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن ابيه عن ابي هريرةرضي الله عنه قال جاء رجل الى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال: " يا رسول الله سعر لنا فقال: " بل ادعو الله" ثم جاءه رجل فقال يا رسول الله سعر لنا فقال: " بل الله يرفع و يخفض و اني لأرجو ان القـــــى الله عز وجـــل و ليست لاحد عندي مظلمة" فهذا رسول الله لا يرضى بالتسعير و يشير الى انه ظلم لما فيه من جبر الناس على بيع اموالهم بما لا يرضون به، و الله لم يبح اكل اموال الناس الا اذا كانت تجارة عن تراض. و لكن طائفة من التابعين كسعيد بن المسبب و ربيعة بن عبد الرحمن و يحيى بن سعيد الانصاري افتوا بجوازه و ذلك حماية لمصالح الناس، في حالة الاحتكار و التلاعب و الظلم و تحكم التجار قصد اضرار الناس، و هو نفس الحكم الذي قال به مالك و ابي حنيفة و احمد، ولاشك ان نقل الفقهاء لحكم التسعير من المنع الى الجواز نابع من القدرة على التكييف الفقـــهي
و من الخبرة بالواقع و تنزيل الأحكام .
(1) السنن ح. 3 ص 27
ثالثا: مـــــســــألة الضــــيــــافــــة
تعتبر الضيافة من آداب الاسلام و خلق النبيين الصالحين، التي يجب ان يتحلى بها كل من ينتمي الى امة الاسلام و لكن بالرحوع الى آراء الفقهاء نجد ان حكم الضيافة يختلف حسب الظروف و البيئات، قال مالك " الضيافة انما تتاكد على اهل القـــرى (البادية)
و لا ضيافة في الحضر، لوجود الفنادق و غيرها، و لان القرى يقل الوافد اليها، فلا مشقة بخلاف الحضر"(1) و قال سحنون: " الا انها على اهل البوادي واجبة لان المسافر قد يجد في الفنادق و مواضع النزول، و ما يشتري من الاسواق ما لا يجده في البادية (2) فتمييز الفقهاء في تحديد حكم الضيافة بين البادية و المدينة دليل على خبرة بآليات التكييف الفقهي اثناء تنزيل الاحكام .
رابعا: القضاء بشهادة الصبيان
من المقرر شرعا ان العدالة شرط في الشهادة لقوله تعالى: " و اشهدوا ذوي عدل منكم" (3) الا ان الامام مالك استثنى هذه الحالة لمصلحة حفظ الدماء، فاجاز شهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح، و ذلك بان " الصبيان في غالب احوالهم ينفردون في ملاعبهم حتى لا يكاد ان يخالطهم غيرهم و يجري بينهم من اللعب و الترامي ما ربما كان سبــــبا للقـــــتل
و الجراح فلو لم يقبل بينهم الا الكبار و اهل العدل لادى ذلك الى هدر دمائهم و جراحهم فقبلت شهادتهم على الوجه الذي يقع على الصحة في غالب الحال" (4) فهذا المثال يدل على أن الامام مالك راعى ظروف و ملابسات هذه القضية اثناء تطبيق حكم الشهادة، و ذلك لان التمسك بشروط الشهادة سيؤدي الى فوات مصلحة حفظ الدماء.
خامسا: يقول الاحناف في القاعدة الفقهية: " اختلاف المكان يوجب تباين الاحكام كدار السلم و دار الحرب، فاذا هاجر احد الزوجين مسلما من دار الحرب و تخلف عنه الاخر ، فالنكاح ينقطع"(5) . فالمكان هنا اثر في النكاح بقاء و انقطاعا فلما اتحد المكان اثر في البقاء و الاستدامة و لما اختلف اوجب الانقطاع و الانفصال، فالبيئة او المكان له دخل في تكييف الحكم و تنزيله عليه .
(1) القرافي الذخيرة
(2) النووي شرح الاربعين ص 48
(3) الطلاق /2
(4) المنتقى للباجي 4/229
(5) تخريج الفروع على الاصول للزنجاني ص 278
سادسا: هــــجـــــر المـــبـــتـــدع:
يقول ابن تيمية رحمه الله في هجر المبتدع: " و هذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم و ضعفهم، و قلتهم و كثرتهم ، فان المقصود به زجر المهجور و تاديبه و رجوع العامة عن مثل حاله. فان كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره الى ضعف الشر و خفيته كان مشروعا... و ان كان لا المهجور و لا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، و الهاجر ضعيف، بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته، لم يشرع الهجر بل يكون التاليف لبعض الناس انفع من الهجر، و الهجر لبعض الناس انفع من التاليف..." (1) فمن هذا النص يتبين ان تنزيل حكم الهجر الشرعي على الواقع يقتضي مراعـــــــــاة الهاجــــــــرين
و المهجورين من حيث القوة و الضعف، و الكثرة و القلة، و ما يؤول اليه اهجر من تحقيق مقصود الشارع ام لا، و تحقيق مقصود الشارع من الهجر مشروط بمعرفة الواقع، فيكون تصور الواقع شرطا في تكييف الحكم الشرعي و صياغته اثناء مرحلة التطبيق.
سابعا: تضـــــمــــيـــــن الصـــــنـــــــاع
قضى عدد من الفقهاء و السلف و الخلف بتضمين الصناع ما هلك بايديهم من امتعة المستصنعين، و هذا خلاف القاعدة العامة بعدم تضمين المؤتمنين. قال القــــــاضـــي:
" و من ضمنه ( أي الصانع) فلا دليل له الا النظر الى المصلحة و سد الذريعة..." (2) قال الشاطبي : " وجه المصلحة فيه ان الناس لهم حاجة الى الصناع ، و هم يغيبون عن الامتعة في غالب الاحوال، و الاغلب عليهم التفريط و ترك الحفظ، فلو لم يتبث تضمينهم مع مسيس الحاجة الى استعمالهم لافضى ذلك الى احد امرين اما ترك الاستصناع بالكلية و ذلك شاق على الخلق، و اما ان يعملوا و لا يضمنوا ذلك، بدعواهم الهلاك و الضياع، فتضيع الاموال و يقل الاحتراز، و تتطرق الخيانة ، فكانت المصلحة التضمين " (3) نسنتج من هذه المسألة ان الفقهاء اعتمدوا في اجتهادهم هذا على خبرتهم بالواقع و ملابساته فكيفوا الحكم بناءا على ذلك بما يحقق المصلحة العامة، حرصا منهم على بلوغ الاحكام مقاصدها و غاياتها التي شرعت من اجلها. فاساس هذا الاجتهاد هو المصلحة المقدرة بفقه الواقع.
(1) مجموع الفتوى 28/206-207
(2) ابن رشد بداية المجتهد ج 2 ص 377
(3) الاعتصام للشاطبي 2/616
فمن خلال النصوص و الامثلة السابقة يتبين لنا مدى العناية التي كان يوليها فقهاؤنا لعملية التكييف الفقهي وفقه الواقع الاجتماعي ، كما يتبين لنا ايضا ان التكييف الفقهي له دخل في تعديل الحكم المقرر للنازلة الواحدة اما بتخفيفه او تغليظه او ايجابه او اسقاطه تبعا لتغير الظروف و الملابسات المحيطة بها، و تبعا لتغير الازمنة و الامكنة و الاحوال و النيات و العوائد، و هو ما يدل على ان الاحكام الشرعية متاثرة بالعوامل و الظروف السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية، و هذا ما يقتضي ضرورة خضوعها للمراجعة المستمرة تبعا لتغير تلك العوامل المؤثرة فيها.